تاريخ سوريا السياسي ( سوريا 1908-1920)
المقدمة :
لعل أكبر مايعاب عليه الشباب السوري أنه لايقرأ في تاريخه ولايرجع إليه ليتخذه نبراساً ونوراً في طريقه ليكشف له الضباب ويزيل عنه الغبش دعونا نتفق أن هناك الكثير من الأسباب التي أدت لهذا لست بصدد الوقوف عندها ولكن من الضروري أن أقول أن النظام السوري القاتل كان بارعاً في استغلال هذه الثغرة في الشباب السوري عبر الترويج للكثير من الأكاذيب التاريخية وإحداث شرخ معرفي بين الماضي والحاضر .
فتجربتي الخاصة في التمرد على كل مازرعه النظام السوري نضجت بعد الثورة السورية المباركة عندما بدأت أتحول من شخص منفصم عن واقعه الى شخص مهتم وفعال في مجتمعه وأذكر أن إحدى أهم المحطات المفصلية كانت عندما سألني أحدى الأصدقاء وأنا في سنتي الثانية طالباً في العلوم السياسية في خضم حوارنا عن شخصيات عالمية كنت قد قرأت عنها تشرشل ولينين وأتاتورك مستفضياً بالشرح عن هذه الأساطير , وماذا تعرف عن أبطالنا في التاريخ السوري !!
سرعان ماتوقف لساني عن البوح بأي كلمة قلت له وانا مطاطئ الرأس للأسف لا أعلم , لقد كان هذا الموقف بمثابة الصفعة التي أحيانا مايقوم بها الأباء في سبيل تقويم إعوجاج ما في سلوك أطفالهم لحثّهم على المضي قدماً لإنجاز عمل ما ينفعون وينتفعون به , قررت على إثرها أن أبدأ بالبحث والقراءة عن تاريخ سوريا السياسي منذ العامين تقريباً خصصت حيزاً من وقتي لذلك وقرأت مايزيد عن عشرات الكتب وبضع مجلدات ومقالات في هذا الشأن , وقمت بعدة محاضرات لطلبة الجامعات والمدارس وايضاً لم اكتفي بهذا فعزمت أن أبدأ بسلسة ( تاريخ سوريا السياسي ) عبر صفحتي الخاصة على الانستغرام عن هذه المعلومات لاتبقى ضمن نطاقٍ ضيق و لاقت هذه المبادرة تعاطفاً واقبالاً كبيراً عليها , وكان من بين المتابعين أحد الأصدقاء القائمين على مبادرة هذه المساحة المباركة التي سأكتب في زاويتها عن بحثي المكون من خمسة أبواب في تاريخ سوريا السياسي وكان لي الشرف بذلك .
سوريا ولادة دولتها الأولى :
1918-1920
تقع سوريا في غرب أسيا ضمن الجغرافية السياسية المعروفة بشبه الجزيرة العربية و يحد سوريا من الشمال تركيا ومن الشرق العراق وجنوباً الأردن ومن الغرب كل من لبنان وفلسطين والبحر المتوسط وعاصمتها دمشق ومدينة حلب أكبر مدنها تضم سوريا أربعة عشر محافظة .
لقد كان موقع سوريا الإستراتيجي علامة فارقة في التاريخ القديم والحديث فرغم تقلص مساحتها بشكلٍ ملحوظ قبل مئة عام وترسيم حدودها بعد اتفاقية 1939 التي سلخت من الوطن الأم لواء اسكندرون إلا أنها بقيت بقعة هامة لمى تحتويه من ثروات باطنية وزراعية وأهمية جيوسياسية وأنثروبولوجية أو مايسمى ( su generis ) في عرف العلاقات الدولية ويعني الميزات الذاتية لكل دولة فميزات سوريا لاتعد ولاتحصى , فتاريخياً كانت سوريا منبع الحضارات العالمية نذكر على سبيل المثال الاشورية والسريانية وأيضًا الحضارة الإسلامية وغيرها , ومجتمعياً سوريا تمتلك رصيد كبير من العادات والتقاليد ويكثر بها الأقوام والاثنيات العديدة أكبرهما بعد العرب الأكراد السوريون والتركمان السوريون الذين تواجدوا قبل مئات الأعوام وأيضاً تتربع سوريا بتنوع أديان سكانها فهناك المسلمين والمسيحين واليهود ايضاً وغيرهم .
سوريا التي تحوي في جعبتها أقدم عاصمة ماهولة من السكان وهي دمشق سوريا والتي تعني ( إله الشمس ) حجبت عنها الشمس لعقود طويلة فبعد إنقلاب حزب الإتحاد والترقي jon Türkler على السلطان العثماني عبد الحميد الثاني في مطلع القرن العشرين تحديداً عام 1908 وعزله في عام 1909 وتولي الإتحاديون سدة الحكم وإدارة شؤون الدولة تعاظم الشرخ بين الثقافتين العربية والتركية وبدأت سوريا تفقد وزنها في الإمبراطورية فـابتعدَ الجانبين نوعاً ما عن القواسم المشتركة التي كانت تجمعهما ” الهوية العثمانية ” فأما عن الترك فلقد إختاروا الأيديولوجية الطورانية والتي تتمحور حول العرق التركي مادفعهم لإعتبار العرب مواطنين درجة ثانية أما العرب فكانوا غير راضين عن التطورات الأخيرة في عاصمة الدولة العثمانية أستانة وقرروا أن يجتمعوا في باريس لتشكيل مايسمى ( حركة الفتاة العربية ) هذا المسمى يبدوا أنه كان يحمل في جعبته رسالة مبطنة الى الفتاة التركية (الإتحاديون) أن العرب لن يرضوا بالسياسة الإقصائية الجديدة , يبدو أن عدم رضاء العرب عن الإنقلاب على السلطان عبد الحميد الثاني كان بمحله فسنرى أنه بعد عدة أعوام سيرسل الإتحاديون الجدد جمال باشا الذي لقب بالسفاح بعد حين والياً على البلاد العربية ويرتكب الأخير مجازر كبيرة في ساحة المرجة لعلي اذكر من هذه المجازر المجزرة التي كاد يعدم بها الرئيس السوري شكري القوتلي لولا لطف الله حسب ما اتى به د.أحمد قدري في مذكراته الذي كان شاهداً على مجزرة نفذت وقتلت اثنا عشر رجل من خيرة شبان سوريا يقول أحمد أنه عندما اتى دور الرجل الثاني عشر وهو السيد توفيق البساط أقدم وقال ( ألا مرحباً بأرجوحة الأبطال ألا مرحباً بأرجوحة الشرف مرحباً بالاعمدة التي يستند إليها إستقلال الأمم مرحباً بالموت في سبيل الوطن ) يبدو أن هذه الجملة توصف لذهن القارئ مدى تفشي الظلم في تلك الحقبة , الظلم الذي يدفع أحياناً المرء للتعاون مع العدو في سبيل الإنعتاق من هذه القبضة الجائرة الغير مفسرة , ويبدوا أن العرب فعلاً قرروا أن ينتهجوا نهجاً مختلف عن الاتراك الطورانيين وكان هذا واضحاً عندما طالبوا أولاً في اللامركزية للدول العربية الطلب الذي قوبل بالرفض من طرف الإتحاديون بكل تأكيد مادفع العرب للبحث عن سبل أخرى تحقق لهم غاياتهم وكان ذلك عبر مد جسور تواصل مع القوى الدولية ويبدوا أن ملك وامير مكة والحجاز ( الشريف حسين) كان له دوراً بارزاً في ذلك فنجح في عام 1915 في التواصل مع المفوض السامي الأعلى في مصر مكماهون الذي أبدى إستعداده لمنح العرب ضالتهم الجدير بالذكر أنه جرت مراسلات بينه الشريف والمفوض قدرت بالعشرة مراسلات وعد بها الأخير على لسان القيادة البريطانية بمنح العرب الإستقلال الكامل الغير مشروط عبر تطبيق مشروع سوريا الكبرى ( Syria salutary ) والذي للأسف الكثير من السوريين/يات لايعلمونه لا إسماً ولاتفصيلاً فمشروع سوريا الكبرى أو الطبيعية كان حقيقاً بيوم من الأيام وليس حلماً فنتازياً وتذكر عدة أبحاث أن سوريا كانت تمتد الى قبرص والموصل العراقية وحتى سيناء المصرية وبعض أراضي شبه الجزيرة العربية وحتى قرأت في بعض المصادر أن البحر الأبيض المتوسط كان يسمى البحر السوري والمنطقة كلها بشكلٍ عام كانت تسمى الهلال الخصيب .
عموماً لقد كان طرح عودة سوريا الطبيعية الى ماكانت عليه عبر التاريخ مع بعض التعديلات من قبل ماكماهون مشجعاً ومنطقياً بالنسبة للعرب الذين حاربوا لأجل هذا المشروع ولكن بكل تأكيد هذا الطرح لم يكن يشمل لا قبرص ولا سيناء ولكنه على الأقل كان يضم سوريا الحالية ولبنان وفلسطين والإردن وبعض أجزاء تركيا والعراق .
بدأت الحرب العالمية الأولى عام 1914 إختار الإتحاديون الوقوف مع الألمان في مواجهة الحلفاء الذين أنضم العرب إليهم في الشرق الأوسط بعد عدة أعوام لما عاشوه من ظلم وإقصاء ,كان العرب منقسمين فيما بينهم فالبعض يقاتل مع الإتحاديون من باب المصير والأخرون كان يرون أن الوقوف معهم هي خيانة لدماء أصدقائهم وذويهم , وبقي هذا التباين ساري حتى حسم العرب أمرهم بعد تعاظم الإنتهاكات ضدهم ، وقاتلوا مع الحلفاء الذين وعدوعهم بإستقلال لم ينفذ الى يومنا هذا .
خاض العرب حربهم ضد العثمانيون ودخلوا دمشق واستطاعوا إبعاد أخر جيش للإتحاديون عن سوريا عام 1918 وبعد هذه الاحداث تنفس السوريون الصعداء وقرروا أن يبدأوا بتشكيل أول حكومة في تاريخ سوريا والتي كانت أقصرها زمناً في التاريخ السوري حيث أستمرت لأربعة أيام فقط وهي حكومة الشيخ سعيد الجزائري تلاها حكومة علي رضا الركابي الأولى ومن ثم تعاقبت الحكومات لتتجاوز الخمسة ومايزيد كان أخرها حكومة هاشم الأتاسي الجدير بالذكر أن معظم هذه الحكومات كانت برئاسة الملك فيصل بن حسين , وكانت سوريا في هذه الحقبة تسمى سوريا الفيصلية ويرى بعض المؤرخون أن هذه الحقبة شهدت أول ولادة لسوريا الحديثة ، الولادة أو التجربة التي لم يكتمل نصابها فلقد أمعن كل من الإنكليز والفرنسيون الضحك والكذب على السوريين/يات فبادئ ذي الأمر قسموا البلاد العربية بناءً على إتفاقية سايكس بيكو الى ثلاثة مناطق وضعت الساحل السوري من خلالها تحت وطأة الفرنسين ومن ثم عادوا مرةً أخرى لتوزيع الكعكة السورية بعد خروج روسيا منها أثر ثورتها البلشفية عام 1917 ضمن اتفاقية سميت ( لويد – جورج ) والتي وضعت سوريا كاملةً تحت الأيادي الفرنسية وسُلخ منها الموصل وقدمت للعراق ( بريطانيا ) وأخيراً وليس أخراً سلخت لبنان عن سوريا وجب إتفاق لم يوقع ( فيصل -كليمانصو ) وأخيراً إتفاق ( سان ريمو ) كان هذا البازار السياسي بمثابة إعطاء الضوء الأخضر البريطاني لفرنسا لإحتلال سوريا , أما عن الدور الأمريكي فلقد كان خجولاً جداً في تلك الحقبة رغم ما أبداه الرئيس الأمريكي ويلسون من تعاطف مع قضية إستقلال الشعب السوري إلا أنه لم ينجح في كبح إرادة الدول المنتصرة في الحرب من تقاسم الخريطة السورية .
عموماً رغم كل هذا التأمر البريطاني الفرنسي ضد وحدة وإستقلال سوريا إلا أن هذا الحقبة تخللها الكثير من الأحداث والمحطات الهامة نذكر منها تشكيل المؤتمر السوري عام 1919 وهو أول برلمان سوري في التاريخ ويسبق هذا البرلمان كل البرلمانات العربية وبعض البرلمانات العالمية والذي إنبثق من الشارع السوري لتمثيله أمام البعثة الأممية برئاسة كراين التي وجهت بشعارات مثل ( الإستقلال يؤخذ ولايعطى ) وكان للبرلمان حينها عندما تحول من مجرد أداة سايسية الى مصدر تشريعي للقوانين دوراً مفصليلاً في إعلان إستقلال سوريا , المحطة الأخرى كانت تشكيل أول دستور عصري في تاريخ سوريا حمل في طياته مبادئ العدالة والديموقراطية والحريات العامة والخاصة وفصل السلطات والقضاء المستقل والمحاكم المستقلة , بالإضافة للكثير من الشخصيات السورية الذين يحلو لي أن أسميهم ( الأباء السوريون ) مثال السورية (نازك العابد) والتي كانت مثال حي عن عظمة وحنكة وجبروت المرأة السورية نازك التي قاتلت المحتل الفرنسي وكانت أول ضابطة في الجيش السوري الوطني وكانت أول من أنشئ الحركة النسوية الدمشقية وعابد وضعت أول حجر للهلال الأحمر السوري , و( محمد العظم ) أول رئيس للبرلمان السوري ويكفي فخراً أن هذا الرجل أنجب أبن سوريا البار العقل الذي شهد له أعداء سوريا برجاحته وحنكته ( خالد العظيم ) ، ويوسف العظمة المغوار أول وزير دفاع في تاريخ سوريا , الشهيد الذي سقط عقب إنذار غورو الشهير فرغم علمه أن المعركة ضد الفرنسين غير متكافئة ولكنه أبى إلا أن يدافع على هذا الإرث السوري عن سوريا العظيمة كما يحلو للكثير من السورين تسميتها .
وهكذا ختمت سوريا تجربتها الحضارية الأولى في سبيل الحرية والإستقلال بخيانة دولية عظمة ممنهجة ومدروسة دفع ثمنها أبناءها غالياً حينما نزف الكثير منهم أخر قطرة من دمائهم على ثغورها مرابطين في معركة ميسلون ، هذه المعركة التي كانت المنعطف التاريخي المأساوي الذي أدخل الجنرال الفرنسي غورو سوريا من أوسع أبوابها ودُحِرَ منها أحفاده أيضاً عقب الإستقلال السوري 1946 فهذا الشعب الجبار لاينام على ضيم ولايرضى إلا الإستقلال .
يتبع …